الجاهلية وما كان فيها من بقايا الحنيفية
وهذه أيضا مقدمة هامة
لابد من دراستها قيل الخوض فى أبحاث السيرة وما فيها من فقه و عظات ’ إذ هى
تنطوى على حقيقة لا يزال خصوم هذا الدين
يطمسون عليها ويزيفونها بأشكال من الوهم و الأباطيل .
وخلاصة هذه الحقيقة أن الإسلام ليس إلا إمتداداً للحنيفية السمحة التى بعث الله بها أبا الأنبياء
إبراهيم عليه السلام ’ وقد صرح
بذلك كتاب الله عز وجل فى آيات كثيرة منها
قوله ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو إجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة
أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من
قبل ) الحج 78 وقوله تعالى :( قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين )
وأنت خبير أن العرب هم أولاد إسماعيل ابن إبراهيم عليهما
الصلاة و السلام ’ فكان أن توارثوا ملّة أبيهم ومنهاجه الذى بعث به من توحيد الله
وعبادته و الوقوف عند حدوده وتقديس حرماته .
وفى مقدمة ذلك
تعظيم البيت الحرام وتقديسه
واحترام شعائره والذود عنه و القيام بخدمته وسدانته فلما إمتدت بهم القرون و طال
عليهم الأمد ’ أخذوا يخلطون الحق الذى توارثوه بكثير من الباطل الذى تسلل إليهم
’ شأن سائر الأمم و الشعوب عندما يغشاها الجهل ويبعد بها العهد ويندّس بين صفوفها
المشعوذون و المبطلون .
فدخل فيهم الشرك واعتادوا عبادة الأصنام وتسللت إليهم التقاليد
الباطلة و الأخلاق الفاحشة ’ فابتعدوا بذلك عن ضياء التوحيد وعن منهج الحنيفية وعمت
بينهم الجاهلية التى رانت عليهم أمدا من
الدهر ’ ثم إنقشعت عنهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
وكان أول من أدخل
فيهم الشرك وحملهم على عبادة الأصنام عمرو
بن لحىّ بن قمعة بن خزاعة : روى ابن اسحاق
عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن جون الخزاعى : يا أكثم ’ رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه فى النار ’ فما
رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ’ فقال أكثم : عسى أن يضرنى شبهه يارسول
الله ؟ قال : لا ’ إنك مؤمن وهو كافر ’ إنه أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيّب السائبة ووصل
الوصيلة وحمى الحامى )
.
وروى ابم هشام كيفية إدخال عمرو بن لحىّ هذا ’ عبادة الأصنام
فى العرب فقال : خرج عمروبن لحىّ من مكة الى الشام فى بعض أموره ’ فلما قدم ( مآب )
من أرض البلقاء ’ وبها يومئذ العماليق - وهم ولد عملاق ’ ويقال عمليق بن لاوذ بن
سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام ’ فقال لهم ما هذه الأصنام التى أراكم تعبدون ؟
قالوا له : هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ’ ونستنصرها فتنصرنا ’ فقال لهم أفلا
تعطوننى منها صنما فأسير به الى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له ( هبل )
فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .
وهكذا إنتشرت عبادة الأصنام فى الجزيرة العربية وشاع فى أهلها الشرك ’ فانسلخوا من عقيدة
التوحيد التى كانوا عليها واستبدلوا بدين
إبراهيم وإسماعيل غيره ’ وانتهوا الى مثل ما إنتهت إليه الأمم الأخرى من الضلالات و
القبائح فى المعتقدات و الأفعال .
وكان من أهم ما دفعهم الى ذلك كله الجهل و الأمية و التأثر بمن
كان حولهم من أشتات القبائل و الأمم غير أنه
بقيت فيهم بقية من الناس - وإن
كانت تقل مع الزمن - ظلت متمسكة بعقيدة التوحيد’ سائرة على نهج الحنيفية : تصدق
بالبعث و النشور وتوقن بأن الله يثيب المطيع و يعاقب العاصى ’ وتكره هذا الذى
استحدثه العرب من عبادة الأوثان وضلالات الرأى و الفكر ’ ولقد إشتهر من هذه البقية
كثيرون : كقس بن ساعدة الأيادى ’
ورئاب الشنّى ’ وبحيرا الراهب .
كما أنه بقيت فى عاداتهم بقايا من عهد إبراهيم ومبادىء الدين الحنيف وشعائره - وإن كانت
تتضاءل وتضعف مع الزمن - فكانت جاهليتهم تظل منصبغة ’ بقدر ما بآثار من شعائر
الحنيفية ومبادئها ’ وإن كانت هذه الشعائر و المبادىء لا تكاد تظهر فى حياتهم إلاّ
مشوهة فاسدة ’ وذلك كتعظيم البيت و الطواف به والحج و العمرة وكالوقوف بعرفة وهدى
البدن ’ فأصل ذلك كله مشروع ومتوارث لديهم من عهد إبراهيم عليه الصلاة و السلام
ولكنهم كانوا يطبقونه على غير وجهه ويقحمون فيه الكثير مما ليس منه ’ وكإهلالهم
بالحج والعمرة ’ فقد كانت كنانة وقريش يقولون إذا أهلوا : ( لبيك الهم لبيك ’ لبيك
لا شريك ’ إلاّ شريك هو لك ’ تملكه وما
ملك ) فيوحدونه - كما قال ابن هشام - بالتلبية ’ ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون
ملكها بيده .
و الخلاصة أن نشأة التاريخ العربى إنما تمت فى كنف الحنيفية
السمحة التى بعث بها أبو الأنبياء إبراهيم
عليه السلام فكانت تغمر حياتهم عقيدة التوحيد
ونور الهداية و الإيمان ’ ثم أخذ العرب يبتعدون عن ذلك الحق رويدا
رويدا’ بعامل إمتداد الزمن و تطاول القرون
وبعد العهد وأخذت حياتهم تنغمر بدلا من ذلك بظلمات الشرك و ضلالات الفكر وعماهة
الجهل ’ مع إستمرار بقايا من معالم الحق القديم ومبادئه تخب فى سير بطىء مع تاريخهم
’ تذوى وتضعف مع الدهر ويقل أنصارها ما بين سنة و أخرى . فلما استنارت شعلة الدين الحنيف من جديد ’
ببعثة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه
وسلم ’ أقبل الوحى الإلهى الى كل ما قد
تكثف من ضلالات و ظلمات خلال تلك الحقبة
الطويلة من الزمن فمحاه و أنار مكانه بقبس الإيمان و التوحيد ومبادىء العدالة و
الحق ’ وأقبل الى تلك البقايا التى إمتدت بها الحياة الى مشرق النور الجديد ’ مما
كان قد بعث به إبراهيم عليه السلام و أقرته الشرائع الإلهية ’ فأقرها وأكدها وجدد
الدعوة اليها .
ولا ريب أن من نافلة القول وفضوله أن نؤكد بأن هذا الذى نقرره
شىء معروف بالبداهة لمن إطلع على التاريخ ’ وأنه شىء ثابت بالبداهة لمن درس شيئا من
الإسلام ’ غير أننا نضطر فى هذا العصر الى أن نضيع كثيرا من الوقت فى تأكيد
البديهيات وتوضيح الواضحات . وذلك بعد أن
رأينا بأعيينا كيف يخضع بعض الناس إعتقاداتهم لمجرد ما قد يكون فى نفوسهم من الرغبة
و الإرادة .
أجل لفقد عاشت هذه النوعية من الناس ’ ولم يعد يهمها أنها إنما تصفد عقلها بأقسى أغلال العبودية و
الإسترقاق الفكرى ! . وما أعظم الفرق بين أن تكون إرادتك من وراء
عقيدتك ’ وبين أن تكون عقيدتك وراء إرادتك . ما أعظم الفرق بينهما علواً وإسفافاً ’ وعزة وانحطاطا
!
يتبع ..
وهذه أيضا مقدمة هامة
لابد من دراستها قيل الخوض فى أبحاث السيرة وما فيها من فقه و عظات ’ إذ هى
تنطوى على حقيقة لا يزال خصوم هذا الدين
يطمسون عليها ويزيفونها بأشكال من الوهم و الأباطيل .
وخلاصة هذه الحقيقة أن الإسلام ليس إلا إمتداداً للحنيفية السمحة التى بعث الله بها أبا الأنبياء
إبراهيم عليه السلام ’ وقد صرح
بذلك كتاب الله عز وجل فى آيات كثيرة منها
قوله ( وجاهدوا فى الله حق جهاده هو إجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة
أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من
قبل ) الحج 78 وقوله تعالى :( قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين )
وأنت خبير أن العرب هم أولاد إسماعيل ابن إبراهيم عليهما
الصلاة و السلام ’ فكان أن توارثوا ملّة أبيهم ومنهاجه الذى بعث به من توحيد الله
وعبادته و الوقوف عند حدوده وتقديس حرماته .
وفى مقدمة ذلك
تعظيم البيت الحرام وتقديسه
واحترام شعائره والذود عنه و القيام بخدمته وسدانته فلما إمتدت بهم القرون و طال
عليهم الأمد ’ أخذوا يخلطون الحق الذى توارثوه بكثير من الباطل الذى تسلل إليهم
’ شأن سائر الأمم و الشعوب عندما يغشاها الجهل ويبعد بها العهد ويندّس بين صفوفها
المشعوذون و المبطلون .
فدخل فيهم الشرك واعتادوا عبادة الأصنام وتسللت إليهم التقاليد
الباطلة و الأخلاق الفاحشة ’ فابتعدوا بذلك عن ضياء التوحيد وعن منهج الحنيفية وعمت
بينهم الجاهلية التى رانت عليهم أمدا من
الدهر ’ ثم إنقشعت عنهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
وكان أول من أدخل
فيهم الشرك وحملهم على عبادة الأصنام عمرو
بن لحىّ بن قمعة بن خزاعة : روى ابن اسحاق
عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن جون الخزاعى : يا أكثم ’ رأيت عمرو بن لحىّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه فى النار ’ فما
رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ’ فقال أكثم : عسى أن يضرنى شبهه يارسول
الله ؟ قال : لا ’ إنك مؤمن وهو كافر ’ إنه أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيّب السائبة ووصل
الوصيلة وحمى الحامى )
.
وروى ابم هشام كيفية إدخال عمرو بن لحىّ هذا ’ عبادة الأصنام
فى العرب فقال : خرج عمروبن لحىّ من مكة الى الشام فى بعض أموره ’ فلما قدم ( مآب )
من أرض البلقاء ’ وبها يومئذ العماليق - وهم ولد عملاق ’ ويقال عمليق بن لاوذ بن
سام بن نوح - رآهم يعبدون الأصنام ’ فقال لهم ما هذه الأصنام التى أراكم تعبدون ؟
قالوا له : هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ’ ونستنصرها فتنصرنا ’ فقال لهم أفلا
تعطوننى منها صنما فأسير به الى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له ( هبل )
فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه .
وهكذا إنتشرت عبادة الأصنام فى الجزيرة العربية وشاع فى أهلها الشرك ’ فانسلخوا من عقيدة
التوحيد التى كانوا عليها واستبدلوا بدين
إبراهيم وإسماعيل غيره ’ وانتهوا الى مثل ما إنتهت إليه الأمم الأخرى من الضلالات و
القبائح فى المعتقدات و الأفعال .
وكان من أهم ما دفعهم الى ذلك كله الجهل و الأمية و التأثر بمن
كان حولهم من أشتات القبائل و الأمم غير أنه
بقيت فيهم بقية من الناس - وإن
كانت تقل مع الزمن - ظلت متمسكة بعقيدة التوحيد’ سائرة على نهج الحنيفية : تصدق
بالبعث و النشور وتوقن بأن الله يثيب المطيع و يعاقب العاصى ’ وتكره هذا الذى
استحدثه العرب من عبادة الأوثان وضلالات الرأى و الفكر ’ ولقد إشتهر من هذه البقية
كثيرون : كقس بن ساعدة الأيادى ’
ورئاب الشنّى ’ وبحيرا الراهب .
كما أنه بقيت فى عاداتهم بقايا من عهد إبراهيم ومبادىء الدين الحنيف وشعائره - وإن كانت
تتضاءل وتضعف مع الزمن - فكانت جاهليتهم تظل منصبغة ’ بقدر ما بآثار من شعائر
الحنيفية ومبادئها ’ وإن كانت هذه الشعائر و المبادىء لا تكاد تظهر فى حياتهم إلاّ
مشوهة فاسدة ’ وذلك كتعظيم البيت و الطواف به والحج و العمرة وكالوقوف بعرفة وهدى
البدن ’ فأصل ذلك كله مشروع ومتوارث لديهم من عهد إبراهيم عليه الصلاة و السلام
ولكنهم كانوا يطبقونه على غير وجهه ويقحمون فيه الكثير مما ليس منه ’ وكإهلالهم
بالحج والعمرة ’ فقد كانت كنانة وقريش يقولون إذا أهلوا : ( لبيك الهم لبيك ’ لبيك
لا شريك ’ إلاّ شريك هو لك ’ تملكه وما
ملك ) فيوحدونه - كما قال ابن هشام - بالتلبية ’ ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون
ملكها بيده .
و الخلاصة أن نشأة التاريخ العربى إنما تمت فى كنف الحنيفية
السمحة التى بعث بها أبو الأنبياء إبراهيم
عليه السلام فكانت تغمر حياتهم عقيدة التوحيد
ونور الهداية و الإيمان ’ ثم أخذ العرب يبتعدون عن ذلك الحق رويدا
رويدا’ بعامل إمتداد الزمن و تطاول القرون
وبعد العهد وأخذت حياتهم تنغمر بدلا من ذلك بظلمات الشرك و ضلالات الفكر وعماهة
الجهل ’ مع إستمرار بقايا من معالم الحق القديم ومبادئه تخب فى سير بطىء مع تاريخهم
’ تذوى وتضعف مع الدهر ويقل أنصارها ما بين سنة و أخرى . فلما استنارت شعلة الدين الحنيف من جديد ’
ببعثة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه
وسلم ’ أقبل الوحى الإلهى الى كل ما قد
تكثف من ضلالات و ظلمات خلال تلك الحقبة
الطويلة من الزمن فمحاه و أنار مكانه بقبس الإيمان و التوحيد ومبادىء العدالة و
الحق ’ وأقبل الى تلك البقايا التى إمتدت بها الحياة الى مشرق النور الجديد ’ مما
كان قد بعث به إبراهيم عليه السلام و أقرته الشرائع الإلهية ’ فأقرها وأكدها وجدد
الدعوة اليها .
ولا ريب أن من نافلة القول وفضوله أن نؤكد بأن هذا الذى نقرره
شىء معروف بالبداهة لمن إطلع على التاريخ ’ وأنه شىء ثابت بالبداهة لمن درس شيئا من
الإسلام ’ غير أننا نضطر فى هذا العصر الى أن نضيع كثيرا من الوقت فى تأكيد
البديهيات وتوضيح الواضحات . وذلك بعد أن
رأينا بأعيينا كيف يخضع بعض الناس إعتقاداتهم لمجرد ما قد يكون فى نفوسهم من الرغبة
و الإرادة .
أجل لفقد عاشت هذه النوعية من الناس ’ ولم يعد يهمها أنها إنما تصفد عقلها بأقسى أغلال العبودية و
الإسترقاق الفكرى ! . وما أعظم الفرق بين أن تكون إرادتك من وراء
عقيدتك ’ وبين أن تكون عقيدتك وراء إرادتك . ما أعظم الفرق بينهما علواً وإسفافاً ’ وعزة وانحطاطا
!
يتبع ..