[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
للشيخ بدر بن علي العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيموصايا لقوة الحفظ وعلاج النسيان ( لطلبة العلم )
سألتني بارك الله فيكم عن وسائل تقوية الحفظ ، وعلاج النسيان ، فأقول :للشيخ بدر بن علي العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيموصايا لقوة الحفظ وعلاج النسيان ( لطلبة العلم )
لاشك أن قوة الحفظ وضعفه ، وعارض النسيان ، من الأوصاف البشرية التي جبل الله الخلق عليها ، وكل يتفاوت بحسب ما قسم الله له من هبات ، فهما ملكتان تتنامى في الإنسان ،ومن الناس من تلين معه ، ومنهم من تعصي عليه فلا ينال منها إلاّ القليل ، ولذلك فإن من كبير عفو الله تعالى أن رفع عن عباده ما حصل منهم من ترك واجب أو فعل محذورٍ على وجه النسيان لأنه ليس تحت قدرة ابن آدم ، قال تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) الآية (البقرة:286) ، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه ) وقال : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها أو استيقظ ) ،ومع هذا كله فبما أن قوة الحفظ والذاكرة من الملكات البشرية فإن بمقدور ابن آدم تنميتها بقدر ما يستطيع ، وهكذا سائر عادات ابن آدم ، فالحلم بالتحلم ، والعلم بالتعلم ، والأدب بالتأدب ، وكذا الحفظ وقوة الذاكرة ، وأذكر لك بعض وسائل علاج نسيان العلم بما يلي على إيجاز :
أولاً : مداومة ذكر الله تعالى وتكراره ، والله تعالى يقول ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(الكهف: من الآية24) ،
ولعل كون ذكر الله تعالى من أعظم المسببات للحفظ من ثلاث جهات :
[ الأولى ] من حيث صلة بالله تعالى ، ومن زاد وصله بالله نال العون من الله تعالى والقوة ، وكان الشيطان عنه أبعد ، وهو من أعظم من يشاغب على ابن آدم بالنسيان كما صنع مع صاحب موسى عليه السلام فأنساه الحوت قال تعالى : ( قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَاأَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (الكهف:63) ، والشيطان هو الذي أنسى السجين ذكر يوسف عليهالسلام لعزيز مصر ، قال تعالى: ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَااذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِيالسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (يوسف:42) ، وينسي أولياء الله ذكر الله الذي هو الصلة بينهم وبين ربهم قال تعالى : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة:19) ، وبهذا فلا يطرد الشيطان شي أقوى من ذكر الله تعالى .
[الثانية ] وكذلك ذكر الله سبب لقوة الحفظ وقلة النسيان من جهة كونه سبب رئيس لطمأنينة النفس ، قال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28) ،والنفس المطمئنة متأهلة لرسوخ الحفظ ، وثبات العلم ، أما إذا كانت مشغولة الحال ،مذبذبة الأحوال ، فإن الحفظ عليها ثقيل ، ولهذا فإن عادة الحذاق إذا أرادوا الحفظ يقتنصون أهدأ الأوقات وأبعدها عن الضجيج ، وزحام الناس وأصواتهم ، وأفضل ما يكون ذلك ساعات السحر ، وبعد صلاة الفجر ، وكل وقت أو مكان يسود فيه الهدوء .
تنبيه : جرت عادة بعض العامة إذانسوا شيئاً أن يكرروا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ! ، ويقولون ( اللهم صلّ على النبي – اللهم صلى على النبي ) ، وهذا خلاف ما تقدم في قوله تعالى : ( واذكرربك إذا نسيت ) .
[ الثالثة ] أيضاً الذكر يكون به القوة البدنية ، ونشاط القلب وقوته ،وهذا ما يحتاجه طالب العلم ، ومبتغي مداومة الحرص على الحفظ والطلب ، قال تعالى : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَعَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْامُجْرِمِينَ) (هود:52) ، فالاستغفار يزيد من القوة ، وقصة علي بن أبي طالب وزوجه فاطمة رضي الله عنهم وطلبها للخادم ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأن يسبحان الله ثلاثاً وثلاثين ، ويحمدانه ثلاثاً وثلاثين ، ويكبرانه أربعاً وثلاثين وقال بأنه خير لهما من خادم ، وذلك لأن هذا الذكر يزيد منقوتهم .
قال ابن القيم : ( و حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال : هذه غدوتي ، ولولم أتغدّ الغداء سقطت قوتي أو كلاما قريبا من هذا ) .
وقال : ( وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابة أمراً عجيبا ، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ فيجمعة وأكثر ، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراًعظيما ) .
ثانيا : البعد عن المعاصي ، لأنها صدأ القلوب كما جاء في بعض الآثار ،وتدخلها الظلمة والوحشة ، ويروى أن بعض السلف كان يسير مع تلميذ له فكأنه نظر إلى منكر ، فنهره شيخه وقال لتجدن عاقبتها ولو بعد حين ! ، فقال التلميذ : فما مضت الأيام والليالي إلاّ وأنا قد نسيت القران الكريم ! ، وقد قال تعالى : ( وَاتَّقُوااللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)(البقرة: 282) ، وقد كان فيما أنشد الشافعي وهومشهور قوله :
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن الــعـلم نور ونور الله لايؤتى لعـاصي
قال سهل التستري : ( حرام على قلب يدخله النور وفيه شي مم يكره الله عز وجل ) .
ثالثاً : تدريب العقل ، وتنشيط الذاكرة ، وهو ما يسمى اليوم بالرياضةالذهنية ، بمعنى : أن المرء ينبغي أن يعود نفسه على الحفظ ولا يعتمد دائما على الكتابة والتسجيل اليوم بأجهزة التسجيل ، فهذا مما جعل الناس يوكلون حفظ العلم إلى ذلك وتركوا الحفظ ، ولهذا فإن من كان قبلنا أقوى حفظاً ، ومن في البادية أقوى حفظاً لأنه يعلم أنه إذا لم يحفظ في أقرب وقت وإلا سوف تضيع هذه المعلومة ، ويكون التدريبب حفظ النص القصير في فترة زمنية قصيرة ، ثم يأخذ نصاً مثله ويحاول حفظه في وقت أقصرمن سابقه ، كأن يفرض على نفسه حفظ أربعين بيتاً من ألفية السيوطي في ثلاث ساعات ،ومن الغد يحاول حفظ خمسين بيتاً في الوقت نفسه ، ومن بعد غدٍ يحفظ ستين بيتاً في الوقت نفسه فيصبح الأمر عليه كلما يسهل ، وأعرف بعض الإخوان ممن كان يشق عليه حفظ الأربعين النووية ، ومع إصراره وتدرجه في الحفظ : حفظ الأربعين وعمدة الأحكام بل زادت رغبته للحفظ إلى ما هو أطول ، وعندما عرضوا عليه بعض الكتاب المختصرة قال هذاسهل أحفظه في يوم !! ، فانظر كيف آل الأمر بعد أن كان يتعذر عليه حفظ الأربعين النووية !! .
رابعاً : كتابة المحفوظ ولو أكثر من مرة ، وقد جاء في الحديث : ( قيدواالعلم بالكتاب ) وأنشد الشاعر : العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الموثقة فما بلغك من علم فقيده كي لا يضيع وكرر النظر فيه ، بل كرر كتابته عشرات المرات حتى تحفظه ، وقد كان من العلماء من كان يكرر كتابة الكتب حتى يحفظها ومنذلك :
ما ذكره الذهبي عن ابن الخاضبة الدقاق أنه كتب صحيح مسلم بالأجرة سبع مرات .
وذكر عن ابن مرزوق الهروي أنه كتب سنن الترمذي ستّ مرات .
وذكر عن أبي الفضل المقدسي المعروف بابن القيسراني أنه كتب الصحيحين وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة وسنن ابن ماجة عشرمرات ، وذكر أنه بال الدم في رحلته في طلب الحديث مرتين .
وذكرعن ابن الجوزي أنه كتب بيده ألف مجلد .
ومنهم من كان يكتب الحديث في ورقة صغيره ينظر إليها بين الفينة والأخرىحتى يحفظه ، وما أجمل ما يرى اليوم من بعض طلاب العلم من حمل كتاب الجيب الصغيرتسجل فيه الفوائد ، والاشكالات ، حتى تحفظ ، وكلما امتلأ كتاب أبدله بغيرهوهكذا .
خامساً : المذاكرة ، وقد ورد في الأثر : ( حياة العلم مذاكرته ) ، وقال بعضهم : ( تذاكروا الحديث فإن بعضه يهيّج بعضا ) ، وما نسي العلم إلاّ بترك مذاكرته، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( تذاكروا الحديث لا يتفلت منكم ، إنه ليس بمنزلة القران ، إن القران محفوظ مجموع وإنكم إن لم تذاكروا الحديث تفلت منكم ، ولايقولن أحدكم حدثت أمس ولا أحدث اليوم بل حدّ أمس وحدث اليوم وحدث غداً ) وقال : ( مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة ) .
قال الخليل النحوي : ( وأصفى ما يكون ذهن الإنسان وقت السحر ) .
قالالخطيب البغدادي : ( أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة ) .
وقال : ( حفظ الليل أنفع من حفظالنهار ) .
وقال : ( وأفضل المذاكرة : مذاكرةالليل ) .
وكان جماعة من السلف يتذاكرون الساعات الطوال ، وجاء أن وكيع إذا جاءت العتمة ينصرف إلى الإمام أحمد بن حنبل فيقف عند الباب أخذ بعضادتيه ، وقال : يا أبا عبدالله أريد أن ألقي عليك حديث سفيان ،قال : هات ، قال : تحفظ عن سفيان عن سلمة بن كهيل كذا ؟ ، قال : نعم ، حدثنا يحي ،فيقول سلمة كذا وكذا ، فيقول : حدثنا عبدالرحمن ، فيقول : وعن سلمة كذا وكذا ،فيقول : أنت حدثتنا حتى يفرغ من سلمة ، ثم يقول أحمد : فتحفظ عن سلمة كذا وكذا ،فيقول وكيع : لا ، ثم يأخذ في حديث شيخٍ شيخ ، قال فلم يزل قائماً حتى جاءت الجارية فقالت : قد طلع الكوكب .
وقال علي بن الحسن بن شقيق قمت معابن المبارك ليلة باردة ليخرج من المسجد ، فذاكرني عند الباب بحديث فذاكرته ، فمازال يذاكرني حتى جاء المؤذن وأذن للفجر .